عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته (ج)

الجزء الثالث

سوف نلقي بعد ذلك نظرةً على المثل الذي رواه الرّبّ يسوع في عصر النعمة.

3. مَثَل الخروف الضال

متّى 18: 12-14 "مَاذَا تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا، أَفَلَا يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ عَلَى ٱلْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ ٱلضَّالَّ؟ وَإِنِ ٱتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلتِّسْعَةِ وَٱلتِّسْعِينَ ٱلَّتِي لَمْ تَضِلَّ. هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ ٱلصِّغَارِ".

هذه استعارةٌ – أيّ نوعٍ من الشعور ينتاب الناس من هذا المقطع؟ تستخدم طريقة التعبير عن هذه الاستعارة مجازًا باللغة البشريّة؛ وهي شيءٌ في نطاق المعرفة البشريّة. إذا كان الله قد قال شيئًا مماثلاً في عصر الناموس، لكان الناس قد شعروا أنه لا يتماشى حقًّا مع شخصيّة الله، ولكن عندما نطق ابن الإنسان هذا المقطع في عصر النعمة، كان وقعه على الناس مريحًا ودافئًا وعاطفيًّا. عندما أصبح الله جسدًا، أي عندما ظهر في هيئة بشرٍ، استخدم استعارةً مناسبة جدًّا للتعبير عن صوت قلبه في الجانب الإنسانيّ. كان هذا الصوت يُمثّل صوت الله نفسه والعمل الذي أراد أن يفعله في ذلك العصر. كما كان يُمثّل موقفًا كان لدى الله تجاه الناس في عصر النعمة. بالنظر من منظور موقف الله تجاه الناس، فإنه شبّه كلّ شخصٍ بخروفٍ. وإذا ضلّ خروفٌ فسوف يفعل كل ما يتطلّبه الأمر لإيجاده. يُمثّل هذا أحد مبادئ عمل الله بين البشر هذه المرّة في الجسد. استخدم الله هذا المثل لوصف عزمه وموقفه في ذلك العمل. وكانت هذه ميزة أن يصير الله جسدًا: تمكّن من الاستفادة من معرفة البشر واستخدام اللغة البشريّة للتحدّث إلى الناس والتعبير عن مشيئته. لقد شرح أو "ترجم" للإنسان لغته الإلهيّة العميقة التي جاهد الناس لفهمها بلغةٍ بشريّة، بطريقةٍ بشريّة. وقد ساعد هذا الناس على فهم مشيئته ومعرفة ما كان يريد أن يفعله. تمكّن أيضًا من إجراء محادثاتٍ مع أشخاصٍ من المنظور البشريّ، باستخدام لغةٍ بشريّة، والتواصل مع الناس بطريقةٍ يفهمونها. تمكّن حتّى من التحدّث والعمل باستخدام اللغة والمعرفة البشريّتين حتّى يمكن للناس الشعور بلطف الله وقربه وحتّى يمكنهم رؤية قلبه. ماذا ترون في هذا؟ هل ترون أنه لا يوجد حظرٌ في كلام الله وأفعاله؟ يرى الناس هذا على اعتبار أنه لا توجد طريقةٌ استطاع الله أن يستخدم المعرفة أو اللغة البشريّتين أو طرق التحدّث للتكلّم عمّا أراد الله نفسه أن يقوله أو العمل الذي أراد أن يفعله أو للتعبير عن مشيئته؛ هذا تفكيرٌ خاطئ. استخدم الله هذا النوع من المجاز حتّى يشعر الناس بحقيقة الله وأمانته، ويروا موقفه تجاه الناس خلال تلك الفترة الزمنيّة. أيقظ هذا المثل الناس من حلمٍ بعد أن كانوا قابعين تحت الناموس لفترةٍ طويلة، كما ألهم جيلاً بعد جيلٍ من الناس الذين يعيشون في عصر النعمة. من خلال قراءة المقطع الذي يرد به هذا المثل، يعرف الناس صدق الله في خلاص البشريّة ويفهمون مكانة البشريّة في قلبه.

دعونا نلقي نظرةً أخرى على الجملة الأخيرة في هذا المقطع: "هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ ٱلصِّغَارِ". هل كانت هذه كلمات الرّبّ يسوع نفسه أم كلمات أبيه في السماء؟ يبدو من الناحية الظاهريّة أن الرّبّ يسوع هو الذي يتكلّم ولكن مشيئته تُمثّل مشيئة الله نفسه، ولهذا السبب قال: "هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ ٱلصِّغَارِ". لم يكن الناس في ذلك الوقت يعترفون سوى بالآب في السماء بصفته الله، وبأن هذا الشخص الذي رأوه أمام عيونهم كان قد أرسله الله فحسب، وبأنه لم يكن يستطيع أن يُمثّل الآب في السماء. ولذلك تعيّن على الرّبّ يسوع أن يقول ذلك أيضًا حتّى يشعروا حقًا بمشيئة الله للبشريّة ويشعروا بأصالة ودقّة ما قاله. مع أن هذا كان شيئًا بسيطًا في قوله، إلّا أنه كان سديدًا للغاية وكشف عن تواضع الرّبّ يسوع احتجابه. وبغضّ النظر عمّا إذا كان الله قد صار جسدًا أم أنه كان يعمل في العالم الروحيّ، فإنه كان يعرف قلب الإنسان على أفضل وجهٍ، وكان يفهم ما يحتاج إليه الناس على النحو الأكمل، ويعرف ما كان يُقلِق الناس وما كان يُربِكهم، ولذلك أضاف هذا السطر. سلّط هذا السطر الضوء على مشكلةٍ مخبأة في البشر: تشكّك الناس بخصوص ما قاله ابن الإنسان، أي أنه عندما كان الرّبّ يسوع يتكلّم تعيّن عليه أن يضيف: "هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ ٱلصِّغَارِ". استنادًا إلى هذه الفرضيّة وحدها، أتت كلماته بثمارها فجعلت الناس يُصدّقون دقّتها ويُحسّنون مصداقيتهم. يُبيّن هذا أنه عندما أصبح الله ابن الإنسان بصورةٍ عاديّة، كانت العلاقة بين الله والبشر مُربكةً للغاية، وأن موقف ابن الإنسان كان مُحيّرًا للغاية. كما يُبيّن مدى ضآلة مكانة الرّبّ يسوع بين البشر في ذلك الوقت. عندما قال هذا، كان هدفه في الحقيقة أن يقول للناس: يمكنكم أن تطمئنوا – فهذا لا يُمثّل ما في قلبي ولكنه مشيئة الله الذي في قلوبكم. ألم يكن هذا أمرًا مثيرًا للسخرية بالنسبة للبشريّة؟ مع أن الله الذي كان يعمل في الجسد كان ينعم بالعديد من المزايا التي لم يكن يملكها في شخصه، تعيّن عليه أن يتحمّل شكوكهم ورفضهم وكذلك جمودهم وبلادتهم. يمكن القول بأن عمليّة عمل ابن الإنسان كانت عمليّة اختبار رفض البشريّة، وعملية اختبار تنافس البشر ضدّه. بالإضافة إلى ذلك، كانت عمليّة العمل للاكتساب المتواصل لثقة البشريّة وإخضاعها من خلال ما لديه ومَنْ هو ومن خلال جوهره. لم يكن الحال أن الله المُتجسّد كان يشنّ حربًا صريحة ضدّ الشيطان بقدر ما أن الله صار إنسانًا عاديًّا وبدأ صراعًا مع أولئك الذين يتبعونه، وفي هذا الصراع أتمّ ابن الإنسان عمله بتواضعه وبما لديه ومَنْ هو وبمحبّته وبحكمته. ربح الأشخاص الذين أرادهم ونال الهويّة والمكانة اللتين استحقّهما وعاد إلى عرشه.

لنلقِ بعد ذلك نظرةً على المقطعين التاليين من الكتاب المُقدّس.

4. اغفر سبعين مرّة سبع مرّاتٍ

متّى 18: 21-22 "حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: "يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟". قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "لَا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ".

5. محبّة الرّبّ

متّى 22: 37-39 "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هَذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلْأُولَى وَٱلْعُظْمَى. وَٱلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ".

من هذين المقطعين، يتحدّث أحدهما عن الغفران والآخر عن المحبّة. يُسلّط هذان الموضوعان الضوء حقًّا على العمل الذي أراد الرّبّ يسوع عمله في عصر النعمة.

عندما صار الله جسدًا، أحضر معه مرحلةً من مراحل عمله – أحضر معه العمل والشخصيّة المُحدّدين اللذين أراد التعبير عنهما في هذا العصر. في تلك الفترة، كان كلّ شيءٍ فعله ابن الإنسان يدور حول العمل الذي أراد الله عمله في هذا العصر. لم يكن يعمل أكثر ولا أقلّ. كان كلّ شيءٍ قاله وكلّ عملٍ عمله مرتبطًا بهذا العصر. وبغضّ النظر عمّا إذا كان قد عبّر عنه تعبيرًا بشريًّا بلغةٍ بشريّة أو بلغةٍ إلهيّة – وبغضّ النظر عن الطريقة أو المنظور – كان هدفه مساعدة الناس على فهم ما أراد أن يفعله ومضمون مشيئته ومتطلّباته من الناس. كان من الممكن أن يستخدم وسائل متنوّعة من وجهات نظرٍ مختلفة لمساعدة الناس على فهم مشيئته ومعرفتها، وفهم عمله لخلاص البشريّة. ولذلك نرى الرّبّ يسوع في عصر النعمة غالبًا ما يستخدم لغةً بشريّة للتعبير عمّا كان يريد توصيله للبشر. بالإضافة إلى ذلك، فنحن نراه من منظور دليلٍ عاديّ يتكلّم مع الناس ويُسدّد احتياجاتهم ويساعدهم على تحقيق ما طلبوه. لم تكن طريقة العمل هذه واردةٌ في عصر الناموس الذي سبق عصر النعمة. أصبح أكثر قربًا وتعاطفًا مع البشر، وأصبح أكثر قدرةً على تحقيق نتائج عمليّة في كلٍّ من الشكل والأسلوب. والتعبير الذي مفاده "الغفران للناس سبعين مرّةً سبع مرّاتٍ" يُوضّح هذه النقطة. فالهدف المُتحقّق بالرقم في هذا التعبير هو السماح للناس بفهم قصد الرّبّ يسوع في الوقت الذي قال فيه هذا. كان قصده هو أنه يجب على الناس أن يغفروا للآخرين ليس مرّةً أو مرّتين أو حتّى سبع مرّاتٍ بل سبعين مرّةٍ سبع مرّاتٍ. ما الفكرة التي ينقلها التعبير "سبعين مرّةً سبع مرّاتٍ"؟ الهدف هو مساعدة الناس على أن يجعلوا الغفران مسؤوليّتهم الخاصة، أي مسألةً يتعيّن عليهم تعلّمها، وطريقةً ينبغي عليهم حفظها. ومع أن هذا كان مُجرّد تعبيرٍ، إلّا أنه كان نقطةً حاسمة. ساعد الناس على الاستيعاب العميق لما كان يقصده وإيجاد الطرق المناسبة للممارسة والمبادئ والمعايير في الممارسة. ساعد هذا التعبير الناس على الفهم الواضح وأعطاهم فكرةً دقيقة مفادها أنه يجب عليهم أن يتعلّموا الغفران – وأن يغفروا دون شروطٍ ودون قيودٍ بل بموقف التسامح والتفهم للآخرين. ماذا كان في قلب الرّبّ يسوع عندما قال هذا؟ هل كان يُفكّر حقًّا في سبعين مرّةً سبع مرّاتٍ؟ كلا، لم يكن. هل يوجد عددٌ من المرّات التي يغفر فيها الله للإنسان؟ يوجد العديد من الأشخاص الذين يهتمّون كثيرًا بـ"عدد المرّات" المذكورة، ويريدون حقًّا فهم أصل هذا الرقم ومعناه. يريدون أن يفهموا لماذا خرج هذا الرقم من فم الرّبّ يسوع؛ يعتقدون أنه يوجد تضمين أعمق لهذا الرقم. في الواقع، كان هذا مُجرّد تعبير الله في الهيئة البشريّة. وأيّ تضمينٍ أو معنى لا بدّ من فهمه في سياق متطلّبات الرّبّ يسوع للبشريّة. عندما لم يكن الله قد صار جسدًا، لم يفهم الناس الكثير ممّا قاله لأنه خرج من لاهوتٍ كامل. كان البشر لا يرون منظور ما قاله وسياقه ولا يمكنهم الوصول إليه؛ فقد عُبّرَ عنه من عالمٍ روحيّ لم يستطع الناس رؤيته. لم يكن ممكنًا للأشخاص الذين كانوا يعيشون في الجسد اختراق العالم الروحيّ. ولكن بعد أن صار الله جسدًا، تحدّث إلى البشر من منظور البشر وخرج من نطاق العالم الروحيّ وانطلق فيما ورائه. تمكّن من التعبير عن شخصيّته الإلهيّة ومشيئته وموقفه من خلال أشياءٍ كان بمقدور البشر تخيّلها وأشياءٍ كانوا يرونها ويقابلونها في حياتهم، وباستخدام أساليب كان يمكن أن يقبلها البشر، وبلغةٍ يمكنهم فهمها ومعرفةٍ يمكنهم استيعابها، وذلك للسماح للبشر بفهم الله ومعرفته وفهم قصده ومعاييره المطلوبة في نطاق قدرتهم، وبحسب درجة قدرتهم. كانت هذه هي طريقة ومبدأ عمل الله في البشريّة. ومع أن طرق الله ومبادئه في العمل في الجسد تحقّقت في معظمها من البشريّة أو من خلالها، إلّا أنها حقّقت حقًّا نتائج لم يمكن تحقيقها من خلال العمل مباشرةً في الألوهيّة. كان عمل الله في البشريّة أكثر واقعيّة وأصالة وتوجّهًا، وكانت الأساليب أكثر مرونة، وقد تجاوزت في شكلها عصر الناموس.

دعونا نتحدّث أدناه عن محبّة الرّبّ ومحبّة قريبك كنفسك. هل هذا الشيء مُعبٌّر عنه مباشرةً في الألوهيّة؟ من الواضح كلّا! كانت هذه كلّها أمورٌ قالها ابن الانسان في هيئته البشريّة؛ أمّا الناس فقط فيقولون شيئًا مثل "أحبّ قريبك كنفسك. محبّة الآخرين هي نفسها مثل الاعتزاز بحياتك"، ولن يتكلّم سوى الناس بهذه الطريقة. لم يتكلّم الله قط بهذه الطريقة. وعلى أقلّ تقديرٍ، لا يملك الله هذا النوع من اللغة في لاهوته لأنه لا يحتاج إلى هذا النوع من العقيدة، "أحبّ قريبك كنفسك" لتنظيم محبّته للبشريّة، وذلك لأن محبّة الله للبشريّة تكشف بصفةٍ طبيعيّة عمّا لديه ومَنْ هو. متى سمعتم أن الله قال أيّ شيءٍ مثل "أُحبّ البشريّة كما أحبّ نفسي"؟ لأن المحبّة توجد في جوهر الله وفيما لديه ومن هو. محبّة الله للبشريّة والطريقة التي يعامل بها الناس وموقفه تعبيرٌ طبيعيّ ويكشف عن شخصيّته. لا يحتاج إلى عمل ذلك عمدًا بطريقةٍ مُعيّنة، أو أن يتبع عمدًا طريقةً مُعيّنة أو قانونًا أخلاقيًّا للوصول إلى محبّة قريبه كنفسه، فهو يمتلك بالفعل هذا النوع من الجوهر. ماذا ترى في هذا؟ عندما عمل الله في البشريّة، عُبّرَ عن الكثير من أساليبه وكلامه وحقائقه بطريقةٍ بشريّة. ولكن في الوقت نفسه، عُبّرَ عن شخصيّة الله وما لديه ومَنْ هو ومشيئته حتّى يعرفها الناس ويفهموها. وقد كان ما عرفوه وفهموه بالضبط هو جوهره وما لديه ومَنْ هو، وهو ما يُمثّل الهويّة المُتأصّلة لله نفسه ومكانته. وهذا يعني أن ابن الإنسان في الجسد عبّر عن الشخصيّة المُتأصّلة لله نفسه وجوهره إلى أقصى حدٍّ ممكن وبأقصى قدرٍ ممكن من الدقّة. لم تكن طبيعة ابن الإنسان البشريّة تُمثّل عائقًا أو مانعًا أمام تواصل الإنسان وتفاعله مع الله في السماء وحسب، ولكنها كانت في الواقع القناة الوحيدة والجسر الوحيد للبشريّة للاتّصال بربّ الخليقة. ألا تشعرون في هذه المرحلة بأن هناك أوجه تشابهٍ كثيرة بين طبيعة وأساليب العمل الذي عمله الرّبّ يسوع في عصر النعمة والمرحلة الحاليّة من العمل؟ تستخدم هذه المرحلة الحاليّة من العمل أيضًا الكثير من اللغة البشريّة للتعبير عن شخصيّة الله، وتستخدم الكثير من اللغة وطرق من الحياة اليوميّة للبشر والمعرفة الإنسانيّة للتعبير عن مشيئة الله. بمُجرّد أن يصير الله جسدًا، وبغضّ النظر عمّا إذا كان يتكلّم من منظورٍ بشريّ أو منظورٍ إلهيّ، فإن قدرًا كبيرًا من لغته وأساليب تعبيره تكون كلّها من خلال اللغة والأساليب البشريّة. وهذا يعني أنه عندما يصير الله جسداً، فإن هذه أفضل فرصةٍ لك لترى كليّة قدرة الله وحكمته، ولتعرف كلّ جانبٍ حقيقيّ من جوانب الله. عندما صار الله جسدًا، وبينما كان ينمو، أصبح يفهم ويتعلّم ويستوعب بعضًا من معارف البشر ومنطقهم ولغتهم وأساليبهم في التعبير في هيئته البشريّة. كان الله المُتجسّد يملك هذه الأشياء التي جاءت من البشر الذين خلقهم. أصبحت أدوات الله في الجسد للتعبير عن شخصيّته وألوهيّته، ممّا دعاه ليجعل عمله أكثر صلة وأكثر أصالة وأكثر دقّة عندما كان يعمل وسط البشر من منظورٍ بشريٍّ وباستخدام اللغة البشريّة. وقد ساعدت هذه الطريقة الناس على سرعة الوصول وسهولة الفهم بمقدارٍ أكبر، ومن ثمّ تحقّقت النتائج التي أرادها الله. أليس من الأكثر عمليّةً أن يعمل الله في الجسد بهذه الطريقة؟ أليست هذه حكمة الله؟ عندما صار الله جسدًا، عندما كان جسد الله قادرًا على أداء العمل الذي أراد أن ينجزه، فإن هذا كان عندما يريد أن يُعبّر عمليًّا عن شخصيّته وعمله، وقد كان هذا أيضًا هو الوقت الذي استطاع فيه أن يبدأ رسميًّا خدمته باعتباره ابن الإنسان. كان هذا يعني أنه لم تعد توجد هوّةٌ بين الله والإنسان، وأن الله سوف يتوقّف قريبًا عن عمل التواصل من خلال الرسل، وأن الله نفسه يمكنه أن يُعبّر شخصيًّا عن جميع الكلمات وأن يعمل في الجسد كما أراد. وكان يعني أيضًا أن الناس الذين يُخلّصهم الله كانوا أقرب إليه، وأن عمل تدبيره دخل مجالاً جديدًا، وأن جميع البشر كانوا على وشك أن يشهدوا حقبةً جديدةً.

يعلم كلّ من قرأ الكتاب المُقدّس أن أشياءً كثيرة حدثت عندما وُلِدَ الرّبّ يسوع. كان أعظم تلك الأشياء هو مطاردة ملك الشياطين له، حتّى لدرجة ذبح جميع الأطفال البالغين من العمر سنتين فما دون في تلك المنطقة. من الواضح أن الله تحمّل مخاطرةً هائلة بأن يتجسّد بين البشر؛ والثمن الهائل الذي دفعه لاستكمال تدبيره لخلاص البشريّة واضحٌ أيضًا. كما أن الآمال العظيمة التي حملها الله لعمله بين البشر في الجسد واضحة أيضًا. عندما كان جسد الله قادرًا على إتمام العمل بين البشر، كيف كان يشعر؟ يجب أن يتمكّن الناس من فهم ذلك قليلًا، أليس كذلك؟ على أقلّ تقديرٍ، كان الله سعيدًا لأنه تمكّن من البدء في وضع عمله الجديد بين البشر. عندما اعتمد الرّبّ يسوع وبدأ عمله رسميًّا لتحقيق خدمته، امتلأ قلب الله بالفرح لأنه بعد سنواتٍ طويلة من الانتظار والتحضير تمكّن أخيرًا من أن يلبس جسد إنسانٍ عاديّ ويبدأ عمله الجديد في هيئة إنسانٍ من لحمٍ ودم يمكن أن يراه الناس ويلمسوه. تمكّن أخيرًا من التحدّث وجهًا لوجهٍ وقلبًا لقلبٍ مع الناس من خلال هويّة إنسانٍ. تمكّن الله أخيرًا من أن يكون وجهًا لوجهٍ مع البشر باللغة البشريّة وبالطريقة البشريّة؛ تمكّن من تدبير أمور البشر وتنويرهم ومساعدتهم على استخدام اللغة البشريّة؛ تمكّن من تناول الطعام على المائدة نفسها والعيش في المكان نفسه معهم. تمكّن أيضًا من رؤية البشر ورؤية الأشياء ورؤية كلّ شيءٍ كما كان يفعل البشر وحتّى من خلال عيونهم. اعتبر الله أن هذا كان انتصاره الأوّل لعمله في الجسد. يمكن القول أيضًا إنه كان إنجازًا لعملٍ عظيمٍ – وقد كان هذا بالطبع أكثر ما أشعر الله بالسعادة. كانت هذه البداية هي المرّة الأولى التي شعر فيها الله بنوعٍ من الراحة في عمله بين البشر. كانت جميع هذه الأحداث عمليّة وطبيعيّة للغاية، وكانت الراحة التي شعر بها الله أصيلة. بالنسبة للبشريّة، كانت كلّ مرّةٍ تُنجز فيها مرحلةٌ جديدة من عمل الله وكلّ مرّةٍ يشعر فيها الله بالرضا تكون عندما يصبح البشر أقرب إلى الله وأقرب إلى الخلاص. وبالنسبة لله، فإن هذا أيضًا انطلاق عمله الجديد عندما تتقدّم خطّة تدبيره خطوّةً أخرى للأمام، وإضافة إلى ذلك، عندما تقترب مشيئته من الإنجاز الكامل. بالنسبة للبشريّة، يُعتبر وصول مثل هذه الفرصة مسألة مغبوطة وجيّدة جدًّا؛ وبالنسبة لجميع من ينتظرون خلاص الله، تُعتبر مثل هذه الفرصة خبرًا حاسمًا. عندما يُجري الله مرحلةً جديدة من العمل، تكون لديه بدايةٌ جديدة، وعندما ينطلق هذا العمل الجديد والبداية الجديدة ويُقدّمان بين البشر، تكون نتيجة هذه المرحلة من العمل قد تحدّدت بالفعل، وتكون قد أُنجزت، ويكون الله قد شهد بالفعل تأثيراتها ونتائجها النهائيّة. كما أن هذه التأثيرات تجعل الله يشعر بالرضا وتجعل قلبه بالطبع سعيدًا. فالله رأى بعينيه بالفعل وحدّد الشعب الذي يبحث عنه وربح هذه المجموعة بالفعل، وهي مجموعةٌ قادرة على إنجاح عمله وجلب الرضا له فيشعر الله بالطمأنينة ويضع مخاوفه جانبًا ويشعر بالسعادة. وهذا يعني أنه عندما يكون جسد الله قادرًا على بدء عملٍ جديد بين البشر، ويبدأ في إتمام العمل الذي يتعيّن إنجازه دون عرقلةٍ، وعندما يشعر أن كلّ شيءٍ قد تحقّق، فإنه يكون قد رأى النهاية بالفعل. وبسبب هذه النهاية فهو راضٍ وقلبه سعيد. كيف يُعبّر عن سعادة الله؟ هل يمكنكم تخيّل ذلك؟ هل يبكي الله؟ هل يستطيع الله البكاء؟ هل يستطيع الله أن يُصفّق بيديه؟ هل يستطيع الله الرقص؟ هل يستطيع الله الغناء؟ ماذا ستكون تلك الأغنية؟ بالطبع، يستطيع الله أن يُغنّي أغنيةً جميلة مُؤثّرة، أغنيةً يمكن أن تُعبّر عن الفرح والسعادة في قلبه. يمكنه أن يُغنّيها للبشريّة ويُغنّيها لنفسه ويُغنّيها لجميع الأشياء. يمكن التعبير عن سعادة الله بأيّ شكلٍ من الأشكال – فهذا كلّه طبيعيٌّ لأن الله لديه أفراحٌ وأحزان، ويمكن التعبير عن مشاعره المتنوّعة بطرقٍ متنوّعة. هذا حقّه وهو الشيء الأكثر طبيعيّة. يجب ألّا تُفكّروا في أيّ شيءٍ آخر، ويجب ألّا تُظهِروا موانعكم الخاصة على الله بإخباره أنه يجب ألّا يفعل هذا أو ذاك ويجب ألّا يتصرّف بهذه الطريقة أو بتلك، أو بأن يُقلّل من سعادته أو أيّ شعورٍ لديه. يعتقد الناس في قلوبهم أن الله لا يمكن أن يكون سعيدًا ولا يمكنه أن يذرف الدموع ولا يمكنه البكاء – لا يمكنه التعبير عن أيّة عاطفةٍ. من خلال ما نقلناه هاتين المرّتين، أعتقد أنكم لن تروا الله على هذا النحو بعد الآن، بل سترونه ينعم ببعض الحريّة والانطلاق. هذا أمرٌ جيّد جدًّا. إذا تمكّنتم في المستقبل من الشعور حقًّا بحزن الله عندما تسمعون عن حزنه، وإذا تمكّنتم من الشعور حقًّا بسعادته عندما تسمعون عن سعادته – فعلى أقلّ تقديرٍ يمكنكم أن تعرفوا بوضوحٍ وتفهموا ما يجعل الله سعيدًا وما يجعله حزينًا – عندما يمكنك الشعور بالحزن لأن الله حزينٌ والشعور بالسعادة لأن الله سعيدٌ، يكون قد ربح قلبك بالكامل ولن يوجد أيّ حاجزٍ بينك وبينه. لن تحاول فيما بعد تقييد الله في إطار الخيال والمفاهيم والمعرفة البشريّة. في ذلك الوقت، سوف يكون الله حيًّا وفعّالاً في قلبك. سوف يكون إله حياتك وسيد كلّ شيءٍ فيك. هل لديك هذا النوع من الطموح؟ هل لديكم الثقة في إمكانيّة تحقيقكم هذا؟

كيف يمكن لنا نحن المسيحيون أن نتحرَّر من رباطات الخطية ونتطهَّر؟ لا تتردد في الاتصال بنا لتجد الطريق.

محتوى ذو صلة