كيفية تَعرّف بطرس على يسوع

لمس بطرس في يسوع، أثناء الفترة التي قضاها معه، صفات عديدة مُحبّبة وخِصالًا كثيرة جديرة بأن يُحتذى بها، والعديد من الخصال التي اكتسبها من يسوع. ومع أن بطرس رأى في يسوع ماهية الله بطرقٍ شتى، كما رأى فيه العديد من الصفات المحببة، فإنه لم يعرفه في بادئ الأمر. شَرَعَ بطرس في اتّباع يسوع عندما كان في العشرين من عمره، واستمر في اتباعه لمدة ستة أعوام. وخلال هذه الفترة لم يتوصل أبدًا لمعرفة يسوع؛ فقد كانت رغبته في اتّباع يسوع نابعة بالكامل من إعجابه به. عندما دعاه يسوع أولاً عند شواطئ بحر الجليل سأله: "يا سمعان ابن يونا، هل ستَتَّبعني؟" فأجاب بطرس: "لا بُدّ لي من اتّباع ذاك الذي أرسله الآب السماوي، ولا بُدّ أن أعترف بذاك الذي اختاره الروح القدس؛ سوف أتّبعك". في ذلك الوقت، كان بطرس قد سمع بالفعل عن رجل اسمه يسوع أعظم الأنبياء، والابن الحبيب لله، وكان بطرس يرجو دائمًا أن يجده، وأن تتاح له فرصة ليراه (لأن هذه كانت هي الطريقة التي قاده بها الروح القدس). ومع أن بطرس لم يرَ يسوع قط، وكل ما قد سمعه عنه هو محض إشاعات، فقد نما تدريجيًا في قلب بطرس شوقٌ له وإعجابٌ به، وكان في أحيانٍ كثيرةٍ يتوق إلى أن يقع بصره في يوم ما على يسوع. وكيف دعا يسوع بطرس؟ كان هو أيضًا قد سمع من قبل عن رجل اسمه بطرس، لكنْ لم يكن الروح القدس هو الذي وجّهه قائلًا له: "اذهب إلى بحر الجليل، حيث يوجد رجلٌ اسمه سمعان بن يونا". بل كان يسوع قد سمع شخصًا يقول إن هناك رجلًا يُدعى سمعان بن يونا، وإن الناس قد سمعوا عظته، وإنه هو أيضًا كان يعظ بإنجيل ملكوت السموات، وإن الناس الذين سمعوه قد تأثروا جميعًا بكلماته حتى إنهم بكوا بالدموع. وبعد أن سمع يسوع هذا، تبع ذلك الشخص إلى بحر الجليل؛ وعندما قَبِلَ بطرس دعوة يسوع تَبِعَهُ.

خلال هذه الفترة التي تَبِعَ فيها بطرس يسوع، تشكلت لدى بطرس آراء عديدة بشأنه، وكان دائمًا يحكم عليه من منظوره الخاص. ومع أن بطرس كان يمتلك درجة معيّنة من الفهم للروح، فإن فهمه لم يكن واضحًا تمام الوضوح، ولهذا السبب قال: "لا بُدّ لي من اتّباع ذاك الذي أرسله الآب السماوي، ولا بُدّ أن أعترف بذاك الذي اختاره الروح القدس". لم يفهم الأشياء التي صنعها يسوع، ولم تكن واضحة له. وبعدما تبعه لفترة، غدا مهتمًا بما كان يفعله يسوع وما يقوله، وأيضًا بيسوع نفسه. أصبح يشعر بأن يسوع كان مصدر إلهام بالمحبة والاحترام؛ لقد أحب أن يرتبط به، وأن يمكث بجانبه، وكان الإنصات إلى كلمات يسوع مصدر مدد وعون له. وأثناء اتباع بطرس ليسوع، عاين كل شيء عن حياة يسوع وتأثر به تأثرًا عميقًا: أفعاله وكلماته وحركاته وتعبيراته. واكتسب بطرس فهمًا عميقًا لحقيقة أن يسوع لم يكن مثل أي إنسان عادي. فمع أن مظهره كإنسان كان طبيعيًا إلى أبعد الحدود، فإنه كان مملوءًا محبةً وإشفاقًا وتسامحًا تجاه الإنسان. كل ما فعله أو قاله كان ذا قيمة بالغة في مساعدة الآخرين، وكان بطرس يَرقُب ويكتسب أشياءً من يسوع لم يكن قد رآها أو اقتناها من قبل. ولاحظ أنه على الرغم من أن يسوع لم يكن يتمتع بقامة عملاقة أو طبيعة بشرية غير عادية فقد كانت تحيط بمظهره في الواقع هالة غير عادية. ومع أن بطرس لم يستطع أن يفسر الأمر بدقّة، فقد استطاع ملاحظة أن يسوع كان يتصرف على نحو مختلف عن كل مَن سواه؛ فالأشياءُ التي كان يفعلها كانت تختلف كل الاختلاف عمّا يفعله الأشخاص العاديون. وقد لاحظ بطرس أيضًا، من خلال الفترة التي كان فيها على اتصال مع يسوع، أن شخصية يسوع كانت مختلفة عن شخصية الإنسان العادي؛ فقد كان دائمًا يتصرف على نحو ثابت، ولم يكن أبدًا متعجلًا، ولم يكن يهوّل موضوعًا أو يسفّهه؛ وقد عاش حياته بطريقة تبيّن شخصيته التي كانت عادية ومثيرة للإعجاب. وفي محادثاته، كان يسوعُ يتحدث بصراحة ولطف، ويتواصل دومًا ببشاشة وهدوء، ولكنه لم يفقد أبدًا هيبته أثناء قيامه بعمله. رأى بطرس أن يسوع كان أحيانًا صَموتًا، بينما كان في أحيانٍ أخرى يتكلّم على نحو متواصل. أحيانًا كان بطرس يسعد للغاية لرؤيته يتحرّك بكل رشاقة وحيوية مثل حمامة، وفي أحيانٍ أخرى كان يراه في غاية الحزن؛ حتى إنه لم يكن يتكلم مطلقًا؛ إذ كان يبدو مشحونًا بالحزن وكأنه أمٌ منهكة ومتعبة. كان يراه أحيانًا وقد ملأه الغضب، وكأنّه جنديٌ شجاعٌ يهجم على عدو ليقتله، أو حتى كان أحيانًا يبدو وكأنّه أسدٌ يزمجر. كان أحيانًا يضحك، وفي أحيانٍ أخرى كان يصلي ويبكي. أيًا كان ما يعمله يسوع، فإن بطرس أصبح يكنّ له حبًا واحترامًا لا حدود لهما. كانت ضحكة يسوع تغمر بطرس بالسعادة، وحزنه يملأه غمًا، وكان غضبه يخيفه؛ أما رحمة يسوع وغفرانه ومطالبه الصارمة من الناس فقد جعلت بطرس يحب يسوع حبًا حقيقيًا وخلقت لديه توقيرًا حقيقيًا وشوقًا إليه. وبالطبع لم يدرك بطرس كل هذا إلا تدريجيًا بعد أن عاش ملاصقًا ليسوع عددًا من الأعوام.

كان بطرس رجلًا عاقلًا على نحو خاص، مولودًا بذكاء فطريّ، ومع ذلك فقد ارتكب حماقات كثيرة عندما كان يتبع يسوع. كانت له في البداية بعض التصورات حول يسوع. فقد سأل: "يقول الناس إنك نبي. إذًا، عندما كنتَ في الثامنة من عُمرك وبدأت تفهم الأمور، هل كنت تعرف أنك الله؟ هل كنت تعرف أنه قد حُبِلَ بك من قبل الروح القدس؟" أجاب يسوع: "كلا، لم أكن أعرف! ألا أبدو لك كشخصٍ عاديٍّ؟ أنا مثلي مثل أي إنسان آخر. الشخص الذي يُرسله الآب هو شخص عادي، وليس شخصًا خارقًا. ومع أن العمل الذي أعمله يمثّل أبي السماوي، فإن صورتي، والشخص الذي هو أنا، وهذا الجسد الجسماني، لا يمكن أن تمثّل أبي السماوي بالتمام، بل جزءًا منه فحسب. ورغم أنني جئت من الروح القدس، فإنني ما زلت شخصًا عاديًا، وقد أرسلني أبي إلى هذه الأرض كشخص عادي، وليس كشخص خارق". وما إن سمع بطرس ذلك حتى بدأ يفهم قليلًا عن ماهية يسوع. ولم يستطع بطرس أن يكتسب فهمًا أعمق بكثير من ذلك إلا بعد أن قضى ساعات لا حصر لها في الاطلاع على عمل يسوع وتعاليمه ورعايته ومساندته. وعندما بلغ يسوع الثلاثين من عُمره أخبر بطرس عن صلبه الوشيك، وأنه قد أتى ليقوم بمرحلة من العمل – عمل الصلب – من أجل فداء البشرية كلها. وقال يسوع لبطرس أيضًا إنه بعد ثلاثة أيام من الصلب، سوف يقوم ابن الإنسان ثانيةً، وبعدما يقوم سوف يظهر للناس لمدة أربعين يومًا. عندما سمع بطرس تلك الكلمات حزن وتأثر تأثرًا شديدًا، واقترب منذ ذلك الحين فصاعدًا من يسوع أكثر من أي وقتٍ مضى. بعد أن اختبر بطرسُ لبعض الوقت، بدأ يدرك أن كل ما عمله يسوع كان من ماهية الله، وبدأ يفكر في أن يسوع جدير بأن يُحَب بطريقة استثنائية. وعندما توصل بطرس إلى هذا الفهم، عندئذ فقط، بدأ الروح القدس يهبه استنارة من الداخل. وعندها توجّه يسوع إلى تلاميذه وأتباعه الآخرين، وسأل هذا السؤال: "يوحنا! مَنْ أنا برأيك؟" فأجاب يوحنا: "أنت موسى". ثم توجّه إلى لوقا، وسأله: "وأنت يا لوقا، مَنْ أنا برأيك؟" فأجاب لوقا: "أنت أعظم الأنبياء". ثم سأل إحدى الأخوات فأجابت: "أنت أعظم الأنبياء، حيث تتكلم بكلمات وافرة من الأزل وإلى أبد الآبدين. ليس من نبوّات قالها أحد الأنبياء تضاهي نبوّاتك، وليس هناك من يفوقك معرفة، إنك لنبي". ثم توجّه يسوع إلى بطرس، وسأله: "وأنت يا بطرس، مَن برأيك أنا؟" فأجاب بطرس وقال: "أنت هو المسيح ابن الله الحي. أنت أتيت من السماء. إنّك لست من الأرضِ، وأنت لست مثل خلائق الله. إننا هنا على الأرض، وها أنت هنا معنا، ولكنك من السماء. أنت لست من العالم، ولست من الأرض". من خلال اختباره زوده الروح القدس بالاستنارة التي مكّنته من أن يصل إلى هذا الفهم. وبعد هذه الاستنارة زاد إعجابه بكل شيء فعله يسوع، وصار يرى أنه حتى أجدر بالحُبّ، وكان دائمًا في قلبه يأبى أن يفترق عن يسوع. ولذلك – في المرة الأولى التي أظهر فيها يسوع ذاته لبطرس بعد صلبه وقيامته – صرخ بطرس بسعادة استثنائية: "ربي! لقد قمت!" ثم صاد سمكة كبيرة جدًا وهو يبكي، وطبخها، وقدّمها ليسوع. ابتسم يسوع، ولكنه لم يتكلم. وعلى الرغم من علم بطرس بقيامة يسوع، فإنه لم يفهم ساعتها سرَّ ذلك. وعندما قدّم ليسوع السمكة ليأكل لم يرفض يسوع، غير أنه لم يتكلم أو يجلس ليأكل، وبدلًا من ذلك اختفى فجأةً. وكانت هذه صدمة كبيرة لبطرس، وحينئذٍ فقط أدرك أن يسوع القائم من الأموات كان مختلفًا عن يسوع الذي عرفه من قبل. وبمجرد أن أدرك بطرس ذلك حزن، ولكنه أيضًا شعر بالارتياح عندما عَلِمَ أن الرب قد أتمّ عمله. لقد عَلِمَ أن يسوع قد أتمّ عمله، وأن وقته الذي ينبغي أن يمضيه مع البشر قد انتهى، وأنه يتعين على الإنسان أن يسلك طريقه الخاص من ذلك الوقت فصاعدًا. قال له يسوع ذات مرة: "أنت أيضًا لا بُدّ أن تشرب من الكأس المُرّة التي شربت أنا منها (هذا ما قاله يسوع بعد القيامة)، وعليك أيضًا أن تسلك الطريق التي سلكتها أنا، وعليك أن تضحي بحياتك لأجلي". وعلى عكس الحال الآن، فإن العمل في ذلك الحين لم يأخذ شكل محادثة وجهًا لوجه. كان عمل الروح القدس خلال عصر النعمة مخفيًّا بصورة خاصة، وقد قاسى بطرس الكثير من المصاعب، وفي بعض الأحيان كان يصل إلى حد أن يهتف قائلًا: "يا إلهي! إنّني لا أملك سوى هذه الحياة. ومع أنها لا تساوي الكثير بالنسبة إليكَ، فإنني أتمنى أن أكرّسها لك. ومع أنّ البشر لا يستحقّون أن يحبّوك، ومحبتهم وقلوبهم لا تساوي شيئًا، فأنا أؤمن أنكَ تعرف رغبة قلوب البشر. ومع أن أجساد البشر لا تحظى بقبولك، فإني أتمنى أن تقبل قلبي". أسهم قول مثل هذه الصلوات في منحه الشجاعة، وخاصةً حينما كان يقول في صلاته: "أرغب في تكريس قلبي بالكليّة لله. وعلى الرغم من عجزي عن أن أفعل أي شيء لله، فأنا على استعداد لأن أُرضي الله بكل إخلاص، ولأن أكرّس نفسي له من صميم قلبي. أؤمن أن الله لا بُدّ وأن يطّلع على قلبي". وكان بطرس يصلّي ويقول أيضًا: "لا أطلب أي شيء في حياتي سوى أن تكون أفكاري عن محبة الله ورغبة قلبي مقبولة لدى الله. لقد قضيت وقتًا طويلًا للغاية مع الرب يسوع، إلا أنني لم أحبه قط، وهذا هو الدين الأكبر الذي أنا مَدينٌ به. وعلى الرغم من كوني قد مكثت معه، فإنني لم أكن أعرفه، حتى إنني تفوّهت بكلمات غير لائقة من وراء ظهره. إن التفكير في هذه الأمور يجعلني أشعر أكثر بأنّني مدين بشدة للرب يسوع". كان دائمًا يصلي بهذه الطريقة، فكان يقول: "إنّني أقل من التراب. لا أستطيع عمل شيء سوى أن أكرّس هذا القلب الوفيّ لله".

كانت هناك نقطة تمثل الذروة في اختبارات بطرس، عندما كان جسده يكاد يكون محطمًا تمامًا، ولكن يسوع كان لا يزال يمنحه تشجيعًا في داخله. وذات مرة، ظهر يسوع لبطرس. عندما كان بطرس يقاسي معاناةً هائلة وشعر وكأن قلبه مكسور، أرشده يسوع قائلًا: "أنت كنت معي على الأرض، وأنا كنت هنا معك. وعلى الرغم من أننا كنّا من قبلُ معًا في السماء، فهذا في النتيجة من العالم الروحي. والآن فقد عُدْتُ إلى العالم الروحي، وأنت موجود على الأرض؛ ذلك لأنّني لستُ من الأرض، ومع أنّك أنت أيضًا لست من الأرض، فلا بُدّ أن تُكمِل عملك على الأرض. وبما أنّك عبد فلا بُدّ أن تتمّم واجبك". وقد تعزّى بطرس بعدما سمع أنه يستطيع أن يعود ليمكث بجانب الله. في ذلك الوقت، كان بطرس في حالة من الضيق كادت تجعله طريح الفراش، وشعر بندم شديد حتى إنه قال: "إنّني في حالة شديدة من الفساد إلى درجة لا أستطيع معها أن أُرضي الله". فظهر له يسوع، وقال له: "بطرس، أنسيتَ يا تُرى القرار الذي اتّخذته أمامي فيما مضى؟ أنسيتَ حقًا كل ما قلته لك؟ أنسيتَ القرار الذي اتخذته لي؟" وبعد أن رأى بطرس أن ذلك كان يسوع، نهض من فراشه، وعزَّاه يسوع قائلًا له: "أنا لست من الأرض؛ قلت لك ذلك من قبل. هذا ما لا بُدّ أن تفهمه؛ ولكن هل نسيت شيئًا آخر أخبرتك عنه؟ "أنت أيضًا لست من الأرض، لست من العالم". لديك الآن عملٌ عليك القيام به، لا يمكن أن تكون في مثل هذه الحالة من الحزن، ولا يمكن أن تكون في مثل هذه الحالة من المعاناة. ومع أنه لا يمكن الآن أن يتعايش البشر مع الله في نفس العالم، فأنا لديّ عملي ولديك عملك، وفي يومٍ ما عندما ينتهي عملك سوف نكون معًا في عالمٍ واحدٍ، وسوف أقودك لتكون معي إلى الأبد". استراح بطرس وأطمأنّ بعدما سمع هذه الكلمات. لقد عَرِفَ أن هذه المعاناة كانت شيئًا لا بُدّ أن يختبره ويتحمّله، ومن ذلك الحين أصبح يتلقى الإلهام. كان يسوع يظهر له خصيصًا في كل لحظة فاصلة، فيعطيه استنارة خاصة وإرشادًا، وكان يقوم بعمل كثير فيه. ولكن ما الذي ندم عليه بطرس أشد الندم؟ ما إنْ قال بطرس "أنت هو ابن الله الحي"، حتى طرح يسوع على بطرس سؤالًا آخر (مع أنه لم يُسجّل في الكتاب المقدس على هذا النحو). وكان السؤال هو: "يا بطرس! هل سبق وأحببتني؟" فهم بطرس ما كان يعنيه، فقال: "يا رب! في الماضي أحببت الآب الذي في السماء، ولكنّني أعترف بأنني لم أحبك قط". عندئذ قال يسوع: "إن كان الناس لا يحبّون الآب الذي في السماء، فكيف يستطيعون أن يحبّوا الابن الذي على الأرض؟ وإن كان الناس لا يحبّون الابن الذي أرسله الله الآب، فكيف يمكنهم أن يحبّوا الآب الذي في السماء؟ إذا أحب الناس بصدق الابن الذي على الأرض، فقد أحبّوا بصدق الآب الذي في السماء". عندما سمع بطرس هذه الكلمات أدرك ما كان يفتقر إليه. لقد كان دائمًا يشعر بالندم العميق حتى الدموع بسبب كلماته التي قالها: "في الماضي أحببت الآب الذي في السماء، ولكنّني لم أحبّك قط". بعد قيامة يسوع وصعوده شعر بطرس بمزيد من الحزن والندم بسبب هذه الكلمات. وعندما كان يتذكّر عمله في الماضي وقامته الحاليّة، كان في الغالب يَمْثل بين يدي يسوع في الصلاة، وهو يشعر دائمًا بالندم وبأنه مَدين؛ لأنه لم يحقق مشيئة الله، ولأنّه لم يَرْقَ إلى معايير الله. وهكذا أصبحت هذه القضايا أثقل أعبائه. قال بطرس: "يومًا ما سوف أُكرّس لك كل ما أملكه وكل كياني، وسوف أقدّم لك أغلى ما عندي، أيًّا كان". وأردف يقول: "يا الله! لديّ فقط إيمان واحد، وفقط حبٌ واحد. حياتي لا تساوي شيئًا، وجسدي لا يساوي شيئًا. لديّ فقط إيمان واحد، وفقط حبٌ واحد. لديّ إيمانٌ بك في عقلي وحبٌ لك في قلبي؛ هذان هما فقط الشيئان اللذان أستطيع أن أقدمهما لك، وليس أي شيء آخر". كانت كلمات يسوع تشجّع بطرس كثيرًا؛ ذلك لأن يسوع قبل أن يُصلَب كان قد قال لبطرس: "أنا لست من هذا العالم، وأنت أيضًا لست من هذا العالم". بعد ذلك، عندما وصل بطرس إلى درجة كبيرة من الألم العظيم، ذكّره يسوع قائلًا له: "يا بطرس، هل نسيت؟ أنا لست من العالم، ولم أغادر في وقت مبكر إلّا لأجل عملي. وأنت أيضًا لست من العالم. هل نسيت حقًّا؟ لقد أخبرتك مرتين، ألا تتذكر؟" بعد أن سمع بطرس ذلك قال: "لم أنسَ!" ثم قال يسوع: "لقد قضيتَ وقتًا سعيدًا من قبلُ في معيتي بالسماء، وقضيت فترةً من الزمن بجانبي. أنت الآن تفتقدني، وأنا أفتقدك. ومع أن المخلوقات لا تستحق ذكرها أمام عينيّ، كيف لي ألاّ أحب شخصًا بريئًا ومستحقًا للحب؟ هل نسيتَ وعدي؟ لا بُدّ أن تقبل المأمورية التي أسندتها إليك على الأرض، ولا بُدّ أن تؤدي المهمّة التي ائتمنتك عليها. يومًا ما سوف أقودك بالتأكيد لتكون بجواري". ما إن سمع بطرس هذه الكلمات حتى تشجّع أكثر وتلقى المزيد من الإلهام، حتى إنه عندما كان على الصليب استطاع أن يقول: "يا الله! لا أستطيع أن أحبك بما يكفي! حتى إذا طلبت مني أن أموت، لا أستطيع مع ذلك أن أحبك بما يكفي! حيثما أرسلتَ روحي، وسواء وفيتَ بوعودك السابقة أم لم تفِ بها، ومهما فعلتَ بعد ذلك، فإنّي أحبك وأؤمن بك". كان ما تشبّث به بطرس هو إيمانه ومحبته الحقيقية.

حدث ذات مساء أن كان عدة تلاميذ، ومن بينهم بطرس، على متن قارب صيد مع يسوع، وسأل بطرس يسوع سؤالًا ساذجًا جدًا: "يا رب، أود أن أطرح عليك سؤالًا كان يراودني منذ أمدٍ بعيد جدًا"؛ فأجاب يسوع: "إذن تَفضّل، اسأل!"، فسأل بطرس: "هل كان العمل الذي تمَّ في عصر الناموس من صُنعِكَ؟"؛ فابتسم يسوع وكأنه يقول: "كم هو بسيط هذا الغلام!"، ثم تابع وهو يرمي إلى غرض معين: "لم يكن من صُنعي، بل كان من صُنع يهوه وموسى". سمع بطرس هذا وهتف مندهشًا: "آه! لم يكن من صُنعك؟"، وما إن قال بطرس هذا حتى صمت يسوع ولم يعد يتكلم. ففكر بطرس في نفسه قائلًا: "لم تكن أنت مَن صنعه، فلا عجب إذن في أنّك جئت لتنقض الناموس؛ ذلك لأنّه ليس من صُنعك". شَعَر قلب بطرس أيضًا بالارتياح. بعد ذلك أدرك يسوع أن بطرس ساذج تمامًا؛ ولكن بما أن بطرس لم يكن لديه أي فهم في ذلك الحين، لم يقل يسوع أي شيء آخر، ولم يدحض كلام بطرس بطريقة مباشرة. في ذات يوم، ألقى يسوع عظة في أحد المجامع، حيث حضر جمعٌ غفيرٌ من الناس، ومن بينهم بطرس. قال يسوع في عظته: "سيأتي القائم منذ الأزل وإلى الأبد ليقوم بعمل الفداء في عصر النعمة، وليفدي جميع البشر من الخطية، ولكنه لن يتقيّد بأي نظام في قيادة الإنسان حتى يخلّصه من الخطية. سوف يخرج من الناموس ويدخل في عصر النعمة، وسيفدي جميع البشرية. إنه الآتي من يهوه، الذي سوف يعبر من عصر الناموس إلى عصر النعمة، ومع ذلك لا يعرفه أحدٌ. العمل الذي صنعه موسى كان عطيةٌ ممنوحة له من يهوه؛ وقد كتب موسى الناموس بسبب العمل الذي كان قد صنعه يهوه". بعند ذلك أكمل يسوع حديثه قائلًا: "إن الذين يُبطِلون وصايا عصر النعمة سيلاقون المحَن أيضًا في عصر النعمة؛ عليهم أن يقفوا في الهيكل ويلقَوا هلاكًا من الله، وستنزل عليهم نارٌ". تأثّر بطرس إلى حدٍ ما حينما استمع إلى هذه الكلمات، وطوال فترة اختبار بطرس كان يسوع يرعى بطرس ويؤازره، وكان يتحدث معه حديث القلب للقلب، مما منح بطرس فهمًا أفضل قليلًا ليسوع. عندما عاد بطرس بتفكيره إلى عظة يسوع التي ألقاها في ذلك اليوم، وإلى السؤال الذي كان قد طرحه على يسوع عندما كانا على متن قارب الصيد، وأيضًا إلى الإجابة التي أجابها يسوع، وكذلك كيف ابتسم، توصل بطرس أخيرًا إلى فهم الأمر كله. بعد ذلك، وهب الروح القدس بطرس الاستنارة، وعندها فقط أدرك أن يسوع هو ابن الله الحي. كان مصدر فهم بطرس هو الاستنارة التي حصل عليها من الروح القدس، إلا أنّ فهمه كان نتاج مراحل. فمن خلال طرح الأسئلة، وسماع يسوع وهو يُكرِز، ثم من خلال تلقّي الشركة الخاصة من يسوع، ورعايته الخاصة له، تمكّن بطرس من إدراك أن يسوع كان هو ابن الله الحي. لم يتحقق ذلك بين عشية وضحاها، بل كان ذلك من خلال مراحل عدة، وأصبح هذا مصدر عون لبطرس في اختباراته اللاحقة. لماذا لم يقم يسوع بعمل التكميل هذا في أشخاص آخرين، بل فعل ذلك مع بطرس فقط؟ ذلك لأن بطرس وحده هو مَنْ أدرك أن يسوع هو ابن الله الحي، ولم يعرف ذلك أحد سواه. فمع أن تلاميذ كثيرين كانوا يعرفون الكثير في زمنهم من خلال اتّباع يسوع، فقد كانت معرفتهم سطحية. لذلك اختار يسوع بطرس كنموذج للحصول على الكمال. ما قاله يسوع لبطرس في ذلك الزمان يقوله اليوم للأشخاص الذين ينبغي أن تصل معرفتهم ودخولهم في الحياة إلى ما وصل إليه بطرس. وسيكمّل الرب كل إنسان وفقًا لهذا الشرط وهذا المسار بالذات. لماذا يجب على جميع الناس في هذا الزمان أن يتحلّوا بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة؟ يجب عليكم أن تختبروا ما اختبره بطرس، وما جناه بطرس من ثمار اختباراته لا بُدّ أن يُستعلن فيكم أيضًا، ولا بد أيضًا أن تختبروا الألم الذي اختبره بطرس. إن الطريق الذي تسلكونه هو نفس الطريق الذي سلكه بطرس، وكذلك الألم الذي تقاسونه هو نفس الألم الذي قاساه بطرس. فعندما تنالون المجد وتعيشون حياة حقيقية، حينها فقط ستحيون في نفس الصورة التي عاشها بطرس. الطريق هو نفس الطريق، وباتباعه يصبح الإنسان كاملًا. غير أن قدرتكم تعدّ ناقصةً إلى حدٍ ما إذا ما قُورِنَت بقدرة بطرس؛ ذلك لأن الأزمنة قد تغيرت، وكذلك تَغيّر معها حجم فساد البشر، ولأنّ اليهودية كانت مملكة عريقة، ولها ثقافة عتيقة؛ ومن هنا يجب عليكم بذل أقصى ما تستطيعون لرفع مستوى قدرتكم.

كان بطرس شخصًا عاقلًا للغاية، وفَطِنًا في كل ما يفعله، وكان أيضًا أمينًا إلى أبعد الحدود. لقد عانى من إخفاقات عديدة. بدأ بطرس في الاحتكاك بالمجتمع وهو في الرابعة عشرة من عمره، عندما كان يداوم في المدرسة، وكان أيضًا يتردد على المجمع. كان مُفعمًا بالحماس، وكانت لدية دائمًا رغبة في حضور الاجتماعات. في ذلك الحين لم يكن يسوع قد بدأ عمله رسميًا. كانت هذه فقط بداية عصر النعمة. بدأ بطرس في التواصل مع الشخصيات الدينية وهو في الرابعة عشرة من عمره؛ وحين وصل إلى سن الثامنة عشرة بدأ في التواصل مع نخبة القيادات الدينية؛ لكنه ما لبث أن ابتعد عن المشهد ككل بعدما رأى الفوضى الدينية الجارية وراء كواليس الدين. ونظرًا لمدى المكر والخداع والتآمر الذي رآه من هؤلاء الناس، أصبح في غاية الاشمئزاز منهم (كانت هذه هي الطريقة التي عمل بها الروح القدس في ذلك الوقت ليجعل بطرس كاملًا. لقد حرّكه بطريقة خاصة، ونفذ عملًا خاصًّا عليه)، وهكذا انسحب بطرس من المجمع عندما كان في الثامنة عشرة من عمره. لقد اضطهده أبواه، ولم يسمحا له بأن يكون مؤمنًا (كانا إبليسين وغير مؤمنين). أخيرًا، ترك بطرس المنزل، وسافر إلى كل مكان لمدة عامين، كان يعمل خلالهما في الصيد والكرازة، وخلال هذا الفترة كان أيضًا يقود عددًا قليلًا من الناس. والآن ينبغي أن تكون قادرًا على أن ترى بوضوح الطريق الصحيح الذي سلكه بطرس؛ فإذا استطعت أن ترى طريق بطرس بوضوح، فسوف تكون على يقين من العمل الذي يجري اليوم، وبالتالي لن تتذمر، أو تكون سلبيًا، أو تشتاق إلى أي شيء. ينبغي عليك أن تختبر مزاج بطرس في ذلك الوقت: لقد اجتاحه الحزن، ولم يعد يسأل عن أي مستقبل أو بركات. لم يسع في طلب الربح أو السعادة أو الشهرة أو الثروة في العالم؛ بل سعى فقط ليحيا خير حياة هادفة، بأن يبادل اللهَ محبته، وأن يكرّس لله ما يرى أنه أغلى الأشياء على الإطلاق؛ وعندئذ فقط سوف يشعر بالرضا في قلبه. كان بطرس في معظم الأحيان يصلى ليسوع قائلًا: "أيها الرب يسوع المسيح، لقد أحببتك في الماضي، لكنني لم أحبّك أبدًا محبة حقيقيّة. ومع أنني كنت أقول إني آمنت بِكَ، لكن لم تكن قَطّ محبتي لكَ بقلب صادق. كنت فقط أتطلع إليك، وأعبدك، وأفتقدكَ؛ لكنني لم أكُن أكنُّ لكَ محبةً أبدًا، كما لم يكن لديّ إيمانٌ حقيقي بكَ". كان بطرس دائمًا يصلي لكي يتخذ قراره، وكان يتشجّع دومًا بفعل كلمات يسوع، ويستمد حافزًا منها. لاحقًا، وبعد فترةِ من الاختبار، امتحنه يسوع ليحثّهُ على أن يكون أكثر توقًا إليهِ، فقال: "أيها الرب يسوع المسيح، كم أشتاق إليكَ، وكم أتوقُ لأن أنظر إليك. ينقصني الكثير جدًا، ولست أستطيع أن أعوض عن محبتك. لذا أتضرعُ إليكَ أن تأخذني سريعًا؛ متى يحين الوقت الذي تحتاجني فيه، ومتى ستأخذني إليكَ؟ متى سأنظر إلى وجهك من جديد؟ لا أريد أن أعيش في هذا الجسد بعد الآن لأستمر في فسادي، ولا أريد أن أتمرّد أكثر من ذلك. إنّني على استعداد لأن أُكرّس لكَ كل ما أملكه بأسرع ما يمكنني، ولست أريد أن أُحزِنَك أكثر من ذلك". تلك كانت الطريقة التي كان يصلي بها بطرس، ولكنه لم يكن يعلم في ذلك الحين ما سوف يكمّل يسوعُ فيه. ففي أثناء شدة امتحانه، ظهر له يسوع مرةً أخرى وقال له: "يا بطرس، أريد أن أجعلك كاملًا، حتى تصبح ثمرة؛ ثمرة تبلور تكميلي لك وأستمتع بها. هل تستطيع حقًا أن تشهد لي؟ هل قمتَ بعمل ما أطلبه منك؟ هل عشت الكلمات التي نطقت بها؟ لقد أحببتني فيما مضى، ولكن مع حبك لي، هل عشت بحسبي؟ ماذا فعلت لأجلي؟ أنت تعرف أنك لا تستحق حبي، ولكن ماذا فعلت لأجلي؟" رأى بطرس أنه لم يفعل شيئًا لأجل يسوع، وتذكّر قَسَمه فيما سبق بأن يبذل حياته لأجل الله. ولذا فإنه لم يَعُد يتذمر، وأصبحت صلواته منذ ذلك الوقت فصاعدًا أفضل بكثير. صلى بطرس قائلًا: "أيها الرب يسوع المسيح، لقد تركتك ذات يوم، وأنت أيضًا تركتني في يومٍ من الأيام. لقد قضينا وقتًا بعيدين عن بعضنا، كما قضينا وقتًا معًا. لكنك تحبني أكثر من أي شيء آخر. لقد تمرّدت عليكَ مِرارًا، وأحزنتك أيضًا مِرارًا. كيف لي أن أنسى مثل هذه الأشياء؟ إنّني أحتفظ في ذهني دائمًا بذكرى العمل الذي قمت به فيّ والأمور التي ائتمنتني عليها؛ ولا أنسى ذلك أبدًا. لقد فعلت كل ما استطعت لأجل العمل الذي نفذتَه فيّ. إنّك تعرف تمامًا ما أستطيع أن أفعل، وتعرف أيضًا الدور الذي يمكنني أن أقوم به. أتمنى أن أخضع لترتيباتك، وسوف أُكرّس لك كل ما أملكه. أنت وحدك تعلم ما يمكنني أن أفعله لأجلك. ومع أن إبليس قد خدعني كثيرًا جدًا، وقد تمرّدت عليكَ، فأنا أؤمن أنك لا تتذَكّرني بهذه التعدّيات، ولا تتعامل معي على أساسها. أتمنى أن أُكرّس لك حياتي بأكملها. لا أطلب شيئًا، كما أنّه ليس لي أي آمال أو خطط؛ وكل ما أتمنّاه هو أن أعمل وفق مقصدك، وأن أنفّذ مشيئتك. سوف أشرب من كأسك المُرّة، وأنا طوع أمرك".

يجب أن يكون الأمر واضحًا لكم بخصوص الطريق الذي تسلكونه؛ والطريق الذي سوف تسلكونه في المستقبل، وما الذي سيكمّله الله؟ وما هو الشيء الذي ائتُمنتُم عليه؟ ربما تُمتَحَنُون في يومِ ما، وعندما يحين ذلك الوقت، فإذا استطعتم استلهام اختبارات بطرس، سيُعَدّ ذلك مؤشّرًا على أنّكم بحق تسلكون طريق بطرس. لقد امتدح الله بطرس من أجل إيمانه الحقيقي ومحبته الصادقة، وولائه لله. ونظرًا لأمانته وشوق قلبه لله، فقد جعله الله كاملًا. إن كان لديك حقًا نفس محبة بطرس وإيمانه، فمن المؤكد أن يسوع سيجعلك كاملًا.

السابق: لا يستطيع الشهادة لله إلا أولئك الذين يعرفون الله

التالي: لا يمكن للإنسان أن يتمتع بمحبة حقيقية إلا من خلال اختبار التنقية

كيف يمكن لنا نحن المسيحيون أن نتحرَّر من رباطات الخطية ونتطهَّر؟ لا تتردد في الاتصال بنا لتجد الطريق.

إعدادات

  • نص
  • مواضيع

ألوان ثابتة

مواضيع

الخط

حجم الخط

المسافة بين الأسطر

المسافة بين الأسطر

عرض الصفحة

المحتويات

بحث

  • ابحث في هذا النص
  • ابحث في هذا الكتاب